عبقرية العمارة الحجازية .. فن التكيف والجمال في مواجهة المناخ

تقف مباني جدة التاريخية، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، شاهدة على مدرسة معمارية فريدة، تُعرف باسم العمارة الحجازية التقليدية. هذه العمارة ليست مجرد طراز جمالي، بل هي نموذج متكامل للعبقرية الهندسية التي نجحت في ترويض قسوة المناخ الساحلي الحار والرطب، وفي الوقت ذاته، حافظت على الهوية الثقافية والاجتماعية المتأصلة في المنطقة.
تُجسد العمارة الحجازية مبدأ “الوظيفة والجمال”، حيث تتداخل العناصر المعمارية لتوفر حلاً مناخياً مثالياً مع أقصى درجات الخصوصية.
1. الرواشين: الأيقونة المعمارية والمُكيف الطبيعي
يُعد “الروشان” (ويُطلق على جزئه البارز اسم المشربية أحياناً) العنصر الأكثر شهرة وتميزاً في العمارة الحجازية، وهو بمثابة القلب النابض في واجهات المباني.
وظيفته المناخية (العزل والتهوية):
تلطيف الهواء: صُنعت الرواشين من الخشب الفاخر (كخشب التيك أو الماهوجني)، وهو مادة عازلة للحرارة بامتياز، تمنع انتقال الحرارة الشمسية المباشرة إلى داخل المبنى.
توجيه التيار: تصميم الروشان البارز والخرط الخشبي الدقيق يسمح بدخول الهواء من جميع الجوانب، ويوجّه تيارات الهواء إلى داخل الغرف، مع ترشيح الرياح وتخفيف حدتها.
ترطيب وتبريد: كان يُستخدم الجزء البارز لوضع الأواني الفخارية المملوءة بالماء (المشربية) حيث يساعد تبخر الماء في تلطيف وتبريد الهواء الداخل إلى المنزل.
وظيفته الاجتماعية (الخصوصية والرؤية): يضمن التصميم المخرّم للروشان الخصوصية التامة لسكان المنزل، حيث يمكنهم رؤية المارة بالخارج دون أن يتمكن هؤلاء من رؤية الداخل، وهو مبدأ أساسي يتوافق مع العادات والتقاليد الإسلامية.
الوظيفة الجمالية: تُزين الرواشين بزخارف هندسية معقدة تنتمي لفن الأرابيسك الإسلامي، ما يضفي ثراءً بصرياً وتفصيلاً دقيقاً على الواجهة.
2. التكيف مع المناخ الحار والرطب
لم يقتصر التكيف المناخي على الرواشين، بل شمل التخطيط العمراني وبنية المبنى نفسها:
المواد البنائية: اعتمدت العمارة الساحلية على الحجر المرجاني المُستخرج من البحر، لمتانته، وتغطيته بطبقة سميكة من الجص الأبيض (النورة). هذا الجص الأبيض لم يكن مجرد مادة رابطة، بل كان يعكس أشعة الشمس، مما يقلل من امتصاص الجدران للحرارة، ويحمي الحجر المرجاني من التآكل الناتج عن الرطوبة البحرية.
الشوارع والأزقة الضيقة: تم تخطيط أحياء “البلد” بشوارع ضيقة، بحيث تتظلل المباني على بعضها البعض، مما يوفر ممرات مشاة مظللة باستمرار، ويقلل من تأثير درجات الحرارة المرتفعة والرطوبة.
ارتفاع المباني (الارتفاع الرأسي): تتميز البيوت الحجازية بارتفاعها (3 إلى 5 طوابق)، مما يسمح بوضع غرف المعيشة والنوم في الطوابق العلوية، حيث يكون الهواء أكثر نقاءً وحركة، مع جدران عريضة (قد تصل إلى 80 سم) لضمان العزل الحراري.
3. الخصوصية والتنظيم الداخلي
البيت الحجازي التقليدي مُنظم بدقة ليتناسب مع نمط الحياة الاجتماعية والدينية:
الدهليز والمداخل: المدخل الرئيسي غالباً ما يكون مدعوماً بـ “الدهليز”، وهو مساحة استقبال تفصل بين الخارج والفناء الداخلي، مما يحقق خطوة أولى من الخصوصية. بعض الأبواب الكبيرة كانت تحوي “خوخة الباب”، وهي فتحة صغيرة تسمح بالدخول والخروج اليومي دون فتح الباب الرئيسي الضخم.
الفناء الداخلي (الحوش): كان عنصراً أساسياً في بعض المباني، يوفر الإضاءة والتهوية الطبيعية، ويكون بمثابة مركز عائلي معزول عن محيط الشارع، وقد يضم نوافير مياه تساعد في ترطيب الهواء.
في الختام، تُعد العمارة الحجازية سجلاً حياً لمهارة الإنسان في استغلال موارد بيئته الصعبة. إنها فلسفة معمارية تدمج الجمال الإسلامي في الزخرفة، مع الكفاءة البيئية، لتقدم نموذجاً خالداً للإسكان يتجاوز الزمن، ويُستلهم منه في مشاريع العمارة المعاصرة.
