سباق الهجن: نبض التراث ورياح الأصالة في العصر الحديث

يُعد سباق الهجن (الإبل) أعمق من كونه مجرد منافسة رياضية؛ إنه رحلة عبر الزمن، وموروث ثقافي راسخ يجسد العلاقة الوثيقة والتاريخية بين الإنسان العربي، خاصة في شبه الجزيرة العربية، والجمَل، “سفينة الصحراء”. هذه الرياضة، التي ازدهرت في عصور ما قبل الإسلام واستمرت بتشجيع في العصور الإسلامية، تحولت اليوم إلى صناعة متطورة وفعالية عالمية تجمع بين أصالة الماضي وتقدم التكنولوجيا.
الجذور العريقة والهوية الثقافية
تعكس سباقات الهجن جزءاً أساسياً من الهوية البدوية والحياة الصحراوية. ففي الماضي، كان امتلاك الهجن السريعة والقوية رمزاً للمكانة والهيبة والقوة، وكانت السباقات وسيلة لاختبار جودة السلالات وقوة التحمل استعداداً لرحلات السفر والتنقل الصعبة.
وقد بارك الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذه الرياضة، مما عزز مكانتها في الثقافة العربية. اليوم، ومع التحول الحضري، لم تفقد الهجن قيمتها الرمزية، بل أصبحت مناسبة سنوية للحفاظ على هذا التراث ونقله للأجيال الجديدة.
الهجن: علم وفن واحتراف
لا يعتمد سباق الهجن على السرعة وحسب، بل هو علم وفن يتطلب خبرة عميقة في:
السلالات الأصيلة: يتم التنافس بسلالات عريقة من الإبل، أشهرها “الكخيلة”، و”الظبيان”، و”الصوغان”، التي تتميز برشاقة القوام والقدرة الاستثنائية على الجري والتحمل لمسافات طويلة قد تصل إلى عشرات الكيلومترات، وبسرعة قد تلامس 64 كيلومتراً في الساعة.
التصنيف العمري والجنس: تُقسم الهجن المشاركة إلى فئات حسب العمر والجنس (بكار للإناث وقعود للذكور)، ولكل فئة أشواط ومسافات خاصة بها، مما يضمن المنافسة العادلة.
التضمير والتدريب: يقع على عاتق “المُضمِّر” مهمة ترويض وتدريب الهجن، وهي عملية تستغرق وقتاً طويلاً وتتضمن مراحل دقيقة لتعويد الإبل على الانصياع للأوامر والجري بأقصى سرعة.
ثورة التقنية: الركاب الآلي (الروبوت)
شهدت سباقات الهجن نقلة نوعية في العصر الحديث تمثلت في إدخال الراكب الآلي (الروبوت). بعد الاعتراضات على استخدام الأطفال ذوي الأوزان الخفيفة في السباقات، تم استبدال الراكب البشري بروبوت يتم التحكم فيه عن بعد. هذا التطور:
حقق السلامة: ضمن سلامة كل من الهجن والراكب.
عزز النزاهة: أدى إلى سباقات أكثر نزاهة تعتمد على قدرة الإبل والتدريب السليم.
دمج التكنولوجيا والتراث: خلق مزيجاً فريداً من التقاليد العريقة والتقنية الحديثة، حيث يراقب الملاك والمشجعون السباق عن كثب من سياراتهم الموازية للمضمار.
سباق الهجن كصناعة واقتصاد
تحولت سباقات الهجن من مجرد نشاط اجتماعي إلى صناعة اقتصادية متكاملة تدر ملايين الدولارات في دول الخليج، خاصة في السعودية والإمارات وقطر.
الجوائز والرموز: تُخصص جوائز مالية ضخمة للفائزين. أما الجوائز المعنوية الأرفع، فتُسمى “الرموز”، وهي عبارة عن أشياء ثمينة مثل السيوف الذهبية، الخناجر، أو البنادق، وتعتبر التتويج الأغلى مادياً ومعنوياً لأصحاب الهجن الأصيلة.
الاستثمار: يتم الاستثمار في تحسين السلالات، وتجهيز ميادين سباق عالمية المستوى (مثل ميدان الجنادرية في الرياض)، مما يجعل هذه الرياضة رافداً للسياحة والترفيه الثقافي.
في الختام، يُعد سباق الهجن خير مثال على كيفية محافظة المجتمع العربي على إرثه الأصيل بينما يحتضن التطور التكنولوجي. إنه احتفال بالقدرة على التحمل، والسرعة، والارتباط العميق بالصحراء، ورمز ثقافي حي تم إدراجه مؤخراً في القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية التابعة لليونسكو.

