آبار حِمَى .. حيث يروي الماء والصخر تاريخ الإنسانية

تقف آبار حِمَى في منطقة نجران جنوب غرب المملكة العربية السعودية، شاهداً أثرياً فريداً على عمق التاريخ الإنساني في الجزيرة العربية. هذه الآبار ليست مجرد مصدر للمياه، بل هي قلب منطقة حِمَى الثقافية المدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو (منذ 2021)، وهي تمثل نقطة التقاء للحضارة والطريق والتجارة على مدى آلاف السنين.
الموقع الاستراتيجي ودورها كشريان للحياة
تقع آبار حِمَى في محافظة ثار شمال مدينة نجران، في منطقة كانت تُعد حلقة وصل حيوية على شبكات التجارة القديمة:
طريق القوافل القديم: كانت حِمَى محطة أساسية للقوافل التجارية التي تنقل البضائع الثمينة (كاللبان والبخور والمر) من جنوب الجزيرة العربية (اليمن ونجران) إلى شمالها وشمالها الشرقي (الشام، ومصر، وبلاد الرافدين).
محطة رسوم (Toll Station): يُشار إلى الموقع بكونه أقدم محطة معروفة لتقاضي الرسوم على طول طريق القوافل الهام، مما يؤكد دوره الاقتصادي والإداري المحوري في التجارة العابرة للصحراء.
الآبار الصخرية المعمرة: تتكون المنطقة من ست آبار صخرية رئيسية، مثل “أم نخلة” و”القراين” و”الجناح” و”سقيا” و”الحبيسة” و”الحماطة”، حُفرت بعمق في الصخور لتكون مصدراً ثابتاً للمياه العذبة، ولا يزال بعضها ينضح بالماء حتى اليوم، شاهداً على عبقرية الإنسان القديم في استغلال موارده البيئية.
أرشيف التاريخ المدون على الصخور
ما يميز منطقة حِمَى عن أي موقع آبار آخر هو أنها تضم واحداً من أكبر مجمعات الفنون والنقوش الصخرية في العالم، يمتد تاريخها من الألف السابع قبل الميلاد وصولاً إلى العصور الإسلامية. تُشكل النقوش الصخرية في حِمَى مكتبة مفتوحة تروي قصصاً لا تُحصى:
تنوع الخطوط واللغات: ترك المسافرون والتجار والعابرون بصماتهم وكتاباتهم بخطوط متنوعة، منها المسند الجنوبي، والثمودي (خط البادية)، والخط الكوفي، مما يدل على تعاقب الحضارات واختلاط الثقافات على هذا الدرب.
الرسوم والتوثيق الحياتي: تحتوي اللوحات الصخرية على رسوم آدمية وحيوانية، تصور مناظر الصيد والرعي، وأشكالاً للجمال والخيول والأسلحة، وحتى رسوماً لرقصات وآلات موسيقية. هذه الرسوم ليست مجرد فن، بل هي وثائق ناطقة تحكي عن الحياة اليومية، والملابس، والأدوات، والمعتقدات السائدة في تلك الحقب البعيدة.
القدم التاريخي: أظهرت المسوحات الأثرية أن الاستيطان البشري في المنطقة يعود إلى الألف السابع قبل الميلاد، مع وجود أدوات حجرية تعود إلى العصر الحجري القديم الأوسط، مما يؤكد أن حِمَى كانت موطناً للإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ.
خاتمة: آبار حِمَى.. تراث عالمي ينبض بالحياة
تُعد آبار حِمَى ومنطقة الفن الصخري المحيطة بها كنزاً وطنياً وإنسانياً. إنها تجسد الرابط العميق بين البيئة الصحراوية والحياة، وتثبت أن التجارة كانت دائماً المحرك الرئيسي للتبادل الثقافي والحضاري وبإدراجها في قائمة التراث العالمي لليونسكو، تتأكد القيمة الاستثنائية لهذا الموقع الذي يروي، بماء آبارِه ونقوش صخورِه، فصلاً مهماً من تاريخ الإنسان على أرض الجزيرة العربية.


