مسجد جواثا .. شاهد على فجر الإسلام في شرق الجزيرة العربية

يقف “مسجد جواثا” شامخاً في واحة الأحساء التاريخية بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، شاهداً حياً على بدايات انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية. لا يكتسب هذا المسجد أهميته من عراقة بنائه فحسب، بل من منزلته الدينية الفريدة، إذ يُعد ثاني مسجد صُليت فيه صلاة الجمعة في الإسلام بعد المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة.
الميلاد التاريخي والمكانة الدينية
يعود تاريخ بناء مسجد جواثا إلى السنة السابعة للهجرة النبوية، بعد أن اعتنق وفد قبيلة بني عبد القيس الإسلام طوعاً، وعلى رأسهم الصحابي الجليل المنذر بن عائد الملقب بـ “الأشج”. وبأمر من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، شرع بنو عبد القيس في بناء هذا المسجد ليكون أول مركز للعبادة في شرق الجزيرة العربية.
تترسخ مكانة جواثا في الوجدان الإسلامي لسببين رئيسيين:
ثاني جمعة في الإسلام: صلى فيه بنو عبد القيس أول صلاة جمعة لهم، لتكون هذه الصلاة هي الثانية في تاريخ الإسلام، بعد تلك التي أُقيمت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
بوابة الإسلام شرقاً: كان المسجد وموقع جواثا القريب من الخليج العربي نقطة انطلاق رئيسية لنشر الدين الجديد في منطقة البحرين التاريخية (التي تشمل الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية).
العمارة الأصيلة وتحدي الزمن
رغم مرور أكثر من 1400 عام على بنائه، لا يزال مسجد جواثا يحتفظ بملامح العمارة الإسلامية المبكرة، ويتشابه في تصميمه مع طراز المسجد النبوي القديم:
مواد البناء: شُيد المسجد بمواد محلية بسيطة، حيث استخدم في بنائه الجص ومونة الطين، وسُقفت أروقته بـ جذوع النخيل وخشب السندل.
التصميم: تبلغ مساحة المسجد الإجمالية نحو 206 أمتار مربعة، ويتكون بيت الصلاة فيه من ثلاثة أروقة صُممت لتتناغم مع تقلبات المناخ الصحراوي. كما يتميز بوجود أضلاع القبلة والمحراب وبقايا آثار مكان المنبر، مما يجسد النواة الأساسية لشكل دور العبادة في الإسلام.
الترميم والحفظ: تعرض المسجد للاندثار والتغطي بالرمال على مر العصور، ولكن جرى الاهتمام به وإعادة ترميمه عدة مرات، كان آخرها ضمن “مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية”، حيث تم تأهيله ليعود إلى دوره كمركز للعبادة والاحتفاء بالتراث، مع الحفاظ على روحه المعمارية الأصيلة.
موقع جواثا كمركز حضاري
لم يكن مسجد جواثا مجرد مكان للعبادة، بل كان جزءاً من مدينة مزدهرة:
مركز تجاري: عُرفت منطقة جواثا قديماً كمركز تجاري حيوي، تقصدها القوافل محملة بالتمور والمنتجات الزراعية والعطور، وكانت سوقاً تجارية تربط مناطق الخليج وبلاد فارس بوسط الجزيرة العربية.
تلال أثرية: تحيط بالمسجد تلال أثرية تنتشر فوقها كسر فخارية وخزفية، مما يدل على استيطان حضاري قديم يمتد إلى آلاف السنين قبل الميلاد.
وجهة سياحية: أصبح مسجد جواثا اليوم جزءاً من “منتزه جواثا السياحي”، مما يجعله وجهة تجمع بين العمق التاريخي والروحي والأنشطة الترفيهية، حيث يقصده الزوار والسياح من جميع أنحاء العالم للاطلاع على هذا الإرث الإسلامي النادر.
إن مسجد جواثا ليس حجارة وأعمدة، بل هو صفحة مضيئة في سجل التاريخ الإسلامي، ورمز للأصالة والعراقة التي تتميز بها واحة الأحساء.

