سياحة وسفر

بيوت جدة التاريخية .. حكايات من المرجان والخشب تروي أصالة الحجاز

في قلب مدينة جدة العصرية النابضة، تتربع منطقة “جدة التاريخية” (أو “البلد”)، كشاهد حي على أصالة الحجاز وعمق تاريخه. بيوت هذه المنطقة ليست مجرد مبانٍ قديمة، بل هي تحف معمارية، اختزلت عبقرية البناء المحلي المتأثر بموقع جدة كبوابة للحرمين الشريفين وملتقى للحضارات التجارية.

تتميز بيوت جدة التقليدية بطراز معماري فريد، يجمع بين المواءمة البيئية والجمال الهندسي والخصوصية الإسلامية، وقد تم بناء أغلبها من القرن السابع الميلادي وحتى منتصف القرن العشرين.

 مواد البناء: حجر المرجان والطين البحري
اعتمد المعماريون القدامى على مواد من البيئة المحلية لمقاومة عوامل الرطوبة والحرارة:

الحجر المرجاني (المنقبي): يُستخرج هذا الحجر من قاع البحر الأحمر الضحل (بحيرة الأربعين قديماً)، ويتميز بمساميته وقدرته العالية على امتصاص الرطوبة وتقليل الحرارة، مما يمنح البيوت برودة نسبية داخلية.

الطين البحري (الـكاشور): استخدم هذا الطين الأسود اللزج المستخرج من قاع البحر كمادة رابطة (مونة) بديلة للإسمنت، مما زاد من متانة وقوة البناء.

الأخشاب المستوردة: اعتمد البناؤون على أنواع خاصة من الخشب (مثل الزان والجاوي) التي كانت تصل عبر التجارة البحرية من الهند وجنوب شرق آسيا، وتم استخدامها في صناعة الأسقف، والأبواب، والأهم: الرواشين.

 السمة المعمارية الأبرز: الرواشين الحجازية
الـ “روشان” (أو المشربية) هو العلامة الفارقة والأكثر شهرة في بيوت جدة التاريخية، وهو عبارة عن شرفة خشبية بارزة ومزخرفة تغطي النوافذ والفتحات الخارجية. هذه التحفة الهندسية ليست مجرد زينة، بل لها وظائف حيوية متعددة:

التبريد والتهوية: يسمح التصميم الشبكي للروشان بمرور نسمات الهواء البارد وتوجيهها إلى الداخل (تأثير المدخنة)، مع حجب أشعة الشمس المباشرة، مما يلطف الجو في مدينة ذات مناخ حار ورطب.

الخصوصية: يحقق الروشان مبدأ الخصوصية المطلق، حيث يتيح لمن في الداخل رؤية الخارج بوضوح دون أن يتمكن المارة من رؤية ما بداخل البيت.

التجميل: زيّنت الرواشين بالزخارف الهندسية الإسلامية المعقدة (فن الأرابيسك)، وأُضفي عليها ألوان مميزة (البني والأخضر) مما أضاف جمالاً مميزاً على واجهات المباني.

التقسيم الداخلي ووظائف الأجزاء
تميز البيت الجداوي بارتفاع طوابقه (وصل بعضها لأكثر من أربعة طوابق)، وسُمك جدرانه لضمان العزل. ومن أهم مكوناته الداخلية:

الدهليز: هو المدخل الرئيسي للمنزل، ويؤدي غالباً إلى فناء داخلي (حوش) أو إلى “فحل الدرج” (الجزء المركزي للمنزل الذي يضم السلم).

الـمقعد: هو غرفة الاستقبال الرئيسية في الطابق العلوي، وغالباً ما تكون مرتبطة بالروشان الأكبر والأجمل في الواجهة، وهي مكان جلوس كبار العائلة وموضع الصدارة في المجلس.

الطوابق العلوية: كانت مخصصة لغرف النوم والمعيشة الداخلية للعائلة، بينما خُصص الطابق الأرضي للمخازن والخدمات.

بيوت جدة.. سفراء التاريخ
تحولت بيوت جدة اليوم إلى مزارات سياحية ومعالم تاريخية تُدرس، بفضل الجهود المبذولة للحفاظ على “جدة التاريخية” التي أُدرجت ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. ومن أشهر هذه البيوت:

بيت نصيف: أحد أبرز المعالم، الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1881م، واكتسب أهميته التاريخية لاستقباله الملك عبد العزيز (طيّب الله ثراه) عند دخوله جدة.

بيت المتبولي وبيت باعشن وبيت جمجوم: نماذج أيقونية تعكس عمارة البيوت البرجية التي كانت مقراً للنخبة التجارية في المدينة.

في بيوت جدة، يختبئ التاريخ وراء كل نافذة خشبية، ليحكي قصة مدينة بُنيت بذكاء وفن، وظلت شامخة في وجه الزمن، كنزاً معمارياً يمثل جوهر الهوية الحجازية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم Adblocke

https://rmse.sa/wp-content/uploads/2025/02/Download-Adblock.webp