دروب النور والبركة .. طرق الحج القديمة

لم تكن طرق الحج في العصور الإسلامية مجرد خطوط على الخريطة، بل كانت إنجازات هندسية وإدارية عظيمة، تطلبت تخطيطاً دقيقاً وموارد هائلة لتأمين ملايين الحجاج القادمين من مشارق الأرض ومغاربها. كانت هذه الدروب، خاصة في العصر العباسي، مثالاً لتكامل المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية.
أولاً: درب زبيدة (طريق الحج الكوفي)
يُعد هذا الطريق، الذي يمتد لمسافة تزيد عن 1400 كيلومتر من الكوفة (العراق) إلى مكة المكرمة، تحفة معمارية وإدارية لا مثيل لها.
أعمال السيدة زبيدة وتجهيزات الطريق:
التسمية والدافع: يُنسب إلى السيدة زبيدة بنت جعفر المنصور زوجة الخليفة هارون الرشيد. وقد عانت السيدة زبيدة في رحلتها للحج من شح المياه، فقررت تخصيص أموال ضخمة (يقال أنها بلغت الملايين) لخدمة هذا الدرب.
البرك والسدود (المناهل المائية): أنشأت السيدة زبيدة على طول الطريق ما يقرب من 27 محطة رئيسية، يفصل بين كل محطة وأخرى مسافة يوم سير (أو مرحلة). وفي كل محطة، كانت تُبنى:
البرك الدائرية والمستطيلة: وهي خزانات مياه ضخمة مجهزة لتجميع مياه السيول والأمطار بطريقة هندسية متقنة.
الآبار والقنوات: حفرت آبار، وأنشئت قنوات تحت الأرض (أشهرها عين زبيدة التي زودت مكة بالماء العذب من مسافات بعيدة).
المنشآت الخدمية:
المنازل والاستراحات (الخانات): مبانٍ ضخمة مخصصة لنوم وراحة الحجاج وتخزين بضائعهم.
الحصون والقلاع: أقيمت لحماية القوافل من قطاع الطرق، خاصة في المناطق الصحراوية المعرضة للخطر.
تحديد المسار: تم رصف الطريق في المواقع الرملية والوعرة، ووُضعت على جانبيه الأعلام والأميال الحجرية (الأنصاب) لتحديد الاتجاهات وحساب المسافات بدقة.
محطات بارزة على درب زبيدة:
ذات عرق (الميقات): نقطة التقاء طريق البصرة بطريق الكوفة، وهي ميقات أهل العراق.
الربذة: مدينة إسلامية قديمة كانت مركزاً حضرياً وتجارياً هاماً على الدرب قبل اندثارها.
حائل والقصيم: يمر الطريق عبر مناطق حائل والقصيم (مثل محطة العشار والجميمة)، حيث تنتشر المحطات الأثرية التي تخدم الحجاج في قلب الجزيرة العربية.
ثانياً: طريق الحج الشامي (درب التبوكية)
ربط هذا الطريق بلاد الشام (دمشق) بالحجاز، وحمل معه حجاج المشرق العربي والأناضول والبلقان.
المسار الجغرافي: ينطلق من دمشق، ويمر ببصرى الشام (درعا) ومعان والمدورة، ويدخل الأراضي السعودية عبر حالة عمار، ثم يمر بـ:
تبوك: محطة رئيسية عُرف الطريق باسمها. وقد اهتم به الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فأمر بعمارة عينه لسقيا الحجاج. وتضم قلعة تبوك الإسلامية التي بناها العثمانيون لاحقاً.
الحِجر (مدائن صالح): يمر الطريق بهذا الموقع الأثري الهام، الذي كان محطة للأنباط قبل الإسلام ثم محطة للحجاج.
العُلا (قُرح): كانت مركزاً تجارياً وحضارياً مهماً على هذا الدرب.
الإدارة والخدمة: كان يُعين على هذا الطريق “أمير الحج الشامي” الذي تكون له سلطة كبيرة في قيادة القافلة وتأمينها، ويتم إرسال “المحمل” (كسوة الكعبة) من دمشق عبر هذا الطريق في بعض الفترات.
المعالم الأثرية: يتميز الطريق بالعديد من القلاع والبرك المملوكية والعثمانية التي أنشئت لراحة الحجاج وحمايتهم، مثل قلعة المدورة وقلعة القطرانة.
ثالثاً: طريق الحج المصري
كان هذا الطريق هو الممر الرئيسي لحجاج مصر وبلاد المغرب العربي والأندلس والسودان.
المسار المزدوج (الساحلي والداخلي):
المسار الساحلي (الأكثر استخداماً لاحقاً): ينطلق من مصر، يمر بشبه جزيرة سيناء وصولاً إلى أيلة (العقبة)، ثم يتبع ساحل البحر الأحمر مروراً بـ: حقل، ضباء، الوجه، ينبع، الجار، الجحفة (الميقات)، ثم إلى مكة. وكان هذا المسار يتميز بإمكانية الاستعانة بالملاحة البحرية.
المسار الداخلي: يتجه من مدين إلى الجنوب الشرقي ليلتقي بطريق الحج الشامي عند السقيا (الخشيبة) ليذهب الحجاج معاً إلى المدينة المنورة.
القلاع البحرية: يضم الطريق قلاعاً ومحطات على الساحل مثل قلعة المويلح التي أسست لحماية القوافل وإدارة المنطقة.
الأهمية الثقافية: نظراً لاحتوائه على حجاج المغرب، كان الطريق المصري بوابة لنقل الفقه المالكي والثقافة الأندلسية والمغربية إلى الحجاز.
رابعاً: طريق الحج اليمني
شمل مسارات عديدة تربط اليمن (حاضرة اللبان والتجارة) بالحجاز.
المسارات الرئيسية:
الطريق الساحلي: بمحاذاة البحر الأحمر.
الطريق الداخلي (النجدي): يخترق مناطق الجبال والهضاب الداخلية، ويمر بنجران ثم يتجه شمالاً.
درب الفيل: وهو الطريق القديم الذي يُعتقد أنه سلكه أبرهة الحبشي، ويأتي عبر الجبال مروراً بعسير ثم يتجه نحو الطائف.
الخدمة: كانت هذه الطرق تحظى برعاية الممالك اليمنية المتعاقبة، وكانت المحطات تحتوي على برك حجرية ونقوش تذكارية تركها الحجاج والمسافرون.
خلاصة: إن دراسة طرق الحج القديمة هي دراسة لـ “اقتصاديات الحج” و “جغرافيا السيادة” في العالم الإسلامي، حيث كشف هذا المجهود العظيم عن براعة هندسية فائقة وتفانٍ ديني وإنساني لا يتجسد فقط في بناء الكعبة المشرفة، بل في تيسير الوصول إليها من أطراف الأرض.


